في هذه الحلقة من "تاريخ الملائكة"، نحاول أن نثبت أنّ ملائكة اليهوديّة، وبالتالي المسيحيّة والإسلام، مأخوذون عن ديانات قبلها، خاصّة الزرادشتيّة. ونحن هنا نعتقد أن اليهوديّة، في شكلها البدئي، كانت ترى أن العلاقة إلهي- بشريّ مسألة أقلّ من عاديّة، ولا حاجة لوسيط بين الطرفين. ففي ميثة خلق العالم، النسخة اليهوية، من سفر التكوين ( 4:2 – 24:3 )، نجد آدم في الجنّة يسمع "خطى الرب الإله وهو يتمشّى "، فنادى الربّ الإله الإنسان وقال له: "أين أنت؟"، قال الإنسان: "إنّي سمعت وقع خطاك في الجنّة"؛ وفي ميثة الطوفان يخاطب الربّ نوح دون وسيط؛ " قال الله لنوح: ادخل السفينة أنت وجميع أهلك" ( تك 1:7 ). ورغم أنّ اليهوديّة أقحمت المفهوم "ملاك" في نصوص مبكّرة إلى حدّ ما من التكوين، حيث يظهر "ملاك الربّ" أوّل مرّة في الآية 7:16 في رواية هاجر وابنها اسمعيل، نجد أن الله ذاته يصارع يعقوب، في رواية يهودية شهيرة، فيخلع حق وركه، ويسميه إسرائيل، لأنه " صارع الله " (23:32 ). لكن يبدو أن اليهود وجدوا أنه من الأكثر احتشاماً أن يكون ثمة وسيط بين الإلهي والبشري، خاصة مع التقائهم بثقافات ما بين النهرين وفارس، فازداد انتشار الملائكة في الأسفار العبرانيّة، وتحديداً في تلك التي تنتمي إلى زمن لاحق.
الملائكة تعريفاً:
في الديانات القائمة على مفهوم الوحي، الإله والبشر بعيدون عن بعض. من هنا، فالملائكة تجسّر الهوّة بين الطرفين. الملائكة تسبّح بحمد الله، تنفّذ إرادة الله، وتحمل كلام الله. كذلك فالملائكة تساعد الناس في الوصول إلى الخلاص أو أن تنال امتيازات خاصّة. أكثر من ذلك، فحين تعمل الملائكة نيابة عن الله، يمكن لها أن تؤثّر بقضايا بشريّة عبر أفعال مثل مكافأة المؤمنين ومعاقبة الآثمين ومساعدة المحتاجين.
في كثير من الديانات العالميّة، الملائكة كائنات روحانيّة تعمل وسائط بين الله والبشر. كرسل لله، يمكن للملائكة أداء أغراض كثيرة. ودورهم يمكن أن يكون تعليم أمر، أو إفهام البشر حول مصيرهم. كذلك تلعب الملائكة دوراً هامّاً جداً في اللاهوت الخلاصي حين تقوم بتدوين أفعال المرء الصالحة أو الطالحة في هذه الدنيا، وتمكّن الإله في الحياة الأخرى من أن يدين بعدل هذا الإنسان وفق سجلاته.
بالمقابل، تميل الملائكة لأن تلعب أدواراً أقل شأناً في الأديان ذات الآلهة العديدة. وفي الديانات التي تعتبر أن الكون كلّه مقدّس وأنّ الإله والإنسان لهما الجوهر ذاته، الملائكة أقل أهمية. فليس هنالك ثمة حاجة لهم من أجل تجسير الهوة بين الآلهة والبشر. مع ذلك، حتى في هذه الديانات، ثمة كيانات روحانيّة تشبه الملائكة يمكن لها مساعدة الناس فيما يتعلّق بالإله.
كل الديانات تستعير من الديانات التي سبقتها وتتبنى موادّ قديمة لشريعتها الجديدة، واليهودية غير مستثناة هنا. والعالم الإيراني المتعلّق بالملائكة والشياطين، النور والظلمة، الله ونقيضه، وخط الزمن المقدّس، يدخل عالم الأبوكاليبس اليهودي. إن كثيراً من هذه الكتابات الأوكاليبتيّة موجود من حقبة "ما بين العهدين"، مثل سفر أخنوخ، وهو توليفة لرؤى تتعلّق بالملائكة، الشياطين، والدينونة الأخيرة. فالفكرة الأبوكاليبتيّة حول نهاية الزمان، إضافة إلى الدينونة الأخيرة من قبل الله مع حلول النهاية، تدينان بالكثير للفكر الزرادشتي.
هرميّات الملائكة التراتبيّة:
الملائكة في منظوماتها المختلفة، أو سوياتها المختلفة، كانت جزءاً من ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين القديمة. ولاحقاً في العام 400 تقريباً للميلاد، وصف الفيلسوف اليوناني ديونيسيوس الأروباجيتي هرم الملائكة؛ واعتماداً على كتاباته، تصنّف الملائكة تقليديّاً في تسعة منظومات. المنظومة العليا من الملائكة هي السرافيم، يتلوها الكروبيم، العروش، السيطرات، الفضائل، القوى، المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة. ووفقاً لهذا المخطط، تكرّس الدائرة الأولى من الملائكة – السرافيم، الكروبيم، والعروش – وقتها لتأمّل الله. الدائرة الثانية - السيطرات، الفضائل، والقوى – تحكم الكون. والدائرة الثالثة - المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة - تنفّذ أوامر الملائكة الأعلى.
رؤساء الملائكة هم ملائكة فائقون أو ملائكة من سويّة أعلى موجودون في عدد من التقاليد، بما فيها اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام والزرادشتيّة. كلمة رئيس ملائكة باللغة اللاتينيّة مشتقة من كلمتين يونانيتين، "أرخه" بمعنى حاكم، و"أنخيلوس"، بمعنى مرسل. يقوم الملائكة بمجموعة من الوظائف في الهرم السماوي بما فيها القيام بالواجبات السماويّة والإدارة اليوميّة للأكوان. غالباً ما يوصف رؤساء الملائكة أيضاً بأنهم منغمسون في معارك روحانيّة مستمرّة مع الشياطين، أو أنهم رسل الربّ للتفاعل مع بني البشر.
بحسب التقليدين اليهودي والمسيحي، فإن عدد رؤساء الملائكة هو سبعة، مع أن المراجع تختلف فيما بينها في أسماء وهويات هؤلاء السبعة السماويين المرافقين لله. رؤساء الملائكة الأربعة المقبولون مسيحيّاً؛ هم: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، وأوريئل؛ أما الاختلاف فيدور حول وضعية كلّ من، راغوئيل، رميئل، حموئيل، جوفيئل، زادكيئل، سيميئل، أوريفيئل، زاخريئل، سيلافيئل، جيغوديئل، وبراحيئل. وكل اسم من هذه الأسماء المختلف على مكانتها اقترح بأنه بقية أحد رؤساء الملائكة في التيارات المختلفة إن ضمن اليهوديّة أو المسيحيّة.
بمرور القرون، راح الناس يصفون وظائف الملائكة بطرق مختلفة. وتطوّر دور الملائكة ليحظى بتفاصيل هائلة في الأديان القائمة على الوحي – نقل أو إفشاء الحقيقة أو الإرادة الإلهيتين للكائنات البشريّة.
لا بدّ أن نلاحظ هنا أنّ أسماء الملائكة كلّها مستمدة من اسم الإله "إيل" في اليهوديّة، الذي غالباً ما يرد بصيغة الجمع، إيلوهيم؛ وهو إله غير أصيل عبرانيّاً. هذا يعني أن الملائكة غير ذات ترابط وثيق باسم الإله اليهودي القبلي، يهوه؛ كبعض أنبياء التوراة، يصحاك (إسحق) مثلاً. لقد قلنا في مقالات عديدة أنّه كان ثمة تنافس بين الإلهين، الأصلي والمستورد، وجد أفضل صيغه في الصراع بين إسحق (يصحاك: يهوه يضحك) وإسمعيل ( يشماعإيل: إيل يسمع)، حيث انتصر يهوه بوضوح على إيل. لكن التسوية لم تحصل إلا في زمن لاحق، وهو ما عبّرت عنه الشخصيّة الأسطوريّة الأبرز في تاريخ الميثولوجيا اليهوديّة، أي، إيل ياهو النبي. والذي يعني اسمه حرفيّاً، إيل هو يهوه. إذن، الملائكة، كما يدلّ اسمها بوضوح، مفاهيم مستوردة أقحمت في اليهوديّة لأنه لا يعقل احتشاماً أن تظل العلاقة مباشرة بين الإله وأنبيائه.
يرى غالبيّة الباحثين اليوم، أنّ مفهوم الملائكة ورؤساء الملائكة ظهر أولاً في الديانة الزرادشتيّة. لكننا نعتقد أن المفهوم أقدم من ذلك، وكما أشرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، كان لدى شعوب بلاد ما بين النهرين مفاهيمها للملائكة. وربما أنّ الكشوفات الأثريّة تدخلنا أعمق في التاريخ من الحقبة السومريّة. لكن ما بين أيدينا اليوم ينتهي عند السومريين، كنصوص مدوّنة. مع ذلك، نعتقد أن هذا التصنيف الهرمي المنظّم جاء فقط مع الزرادشتيّة، ومنها انتقل إلى اليهوديّة والمسيحية والإسلام. وكما أشرنا، تقول تعاليم الزرادشتيّة إن هنالك سبع قوى أو سلطات سماويّة، معروفة باسم الأمشا سبنتا، تعمل مع الله، أو تنبثق منه، لإدارة الكون. وجلّ الباحثين اليوم يرون أنّ هذه الفكرة تشرّبتها اليهوديّة أثناء السبي البابلي.
ليس ثمّة إشارة صريحة إلى رؤساء الملائكة في الأسفار القانونيّة في الكتاب المقدّس العبراني. مع ذلك، باستثناء أعمال متأخرة مثل دانيال، الإشارات إلى الملائكة غير شائعة. وأوّل إشارة إلى رؤساء الملائكة ترد في الأدب من فترة ما بين العهدين، كما في سفر عزرا الرابع 36:4. أما أول إشارة إلى سبعة رؤساء ملائكة فنجدها في سفر أخنوخ الأثيوبي (ترجمناه إلى العربيّة ولم ننشره)، حيث ترد قائمة السبعة كما يلي: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، أوريئل، راغوئيل، زراحيئل، ورميئل. من هنا جاءت الفكرة المقبولة اليوم على نطاق واسع في الدوائر الأكاديميّة الرصينة، بأن الاهتمام اليهودي بالملائكة تم تعلمه خلال حقبة السبي البابلي. يقول الحاخام شمعون بن لاقيش الطبراني (230 – 270م. تقريباً)، ( وهو أمورا بارز للغاية ) إن كل الأسماء الخاصة بالملائكة أحضرها اليهود معهم من بابل. في تقليد القبالة الربّاني، الرقم الذي يعطى لرؤساء الملائكة لا يقل عن سبعة عادة: اسم واحد جديد هنا، ساريئل. أحياناً نجد اسماً جديداً آخر هو حنيئل.
الزرادشتيّة واليهوديّة:
تأثر الرأي المتعلّق بالملائكة في اليهوديّة بالزرادشتيّة. فالميثولوجيا الزرادشتيّة تصف صداماً كونيّاً بين أهورا مزدا وأهريمن – قوتا الخير والشر مع جيوشهما من الملائكة والشياطين. ومثل أهورا مزدا، إله العهد القديم يهوه له جيش ملائكة. وهؤلاء الملائكة المحاربون يخوضون غمار حرب ضدّ قوى الشرّ بقيادة الشيطان، الذي يشبه أهريمن. وفي أعقاب الرأي الزرادشتي، تقسم اليهوديّة الكون إلى ثلاثة أقسام: الأرض، السماء (الجنّة) والجحيم. الأرض هي وطن البشر. السماء محجوزة لله وملائكته. الجحيم هو العالم المظلم للشيطان وأتباعه. والملائكة تقوم بدور متشابه في الديانتين، حيث أنها تربط السماء بعالم البشر وتكشف لهم خطط الله وقوانينه. إن وظيفتهم هي خدمة الله وتنفيذ إرادته. فهم يكافئون على الخير ويعاقبون على الشر والجور. كذلك فهم يساعدون الناس على فهم إرادة الله، ويأخذون أنفس الأخيار إلى الجنة.
مختصر إجمالي:
نحاول في هذه الفقرة أن نختصر الأفكار الكثيرة الواردة في مقالتنا هذه، دون أن نشيؤ بالطبع إلى ضرورة متابعة السلسة من باديتها. لاشك أن مواضع التشابه بين الزرادشتيّة واليهوديّة، ومن ثم بين الأولى من جهة والمسيحيّة والإسلام من جهة أخرى، تبدو كثيرة وملفتة. فأهورا مزدا، إله إيران الأعلى، كلّي العلم، كلي الوجود، والخالد، المعطى قوّة الخلق، والتي يمارسها بشكل خاص عبر وساطة سبنتا مانيو ("الروح القدس")، ويحكم الكون بوساطة الملائكة ورؤساء الملائكة، يمدّنا بأقرب مواز ليهوه، إله اليهود، ومن ثم الله، إله المسلمين، يمكن أن نجده في العالم القديم. لكنّ قوة أورموزد (أهورا مزدا) معاقة من قبل عدوّه، أهريمن، والذي ستدمّر سطوته مع نهاية العالم. الشيطان، بجيشه من الملائكة الساقطين أو الأبالسة، يقدّم لنا الموازي الفعلي والحقيقيّ في اليهودية- المسيحيّة- الإسلام لأهريمن (أنغرا مانيو) الزرادشتي. بل يبدو لنا أحياناً أنّ قوّة الشيطان تتفوّق على قوّة يهوه- الله في ما يسمى بالديانات السماويّة. هذا يعني، رغم زعم ما يسمى بالأديان السماوية أنها توحيدية بالمطلق، أن الثنوية غير غائبة فيها عبر نقيض إله الخير، الشيطان. وقد أشار الباحثان الربّانيّان اليهوديّان، شور وكوهوت، واللاهوتي المسيحي، ستيف، إلى كثرة التشابهات بين الديانتين محط دراستنا.
بقي أن نقول، إنه ربما ساعدت الثنويّة الإلهية في الزرادشتيّة علماء اليهود في التخلّي عن شكل وحدانيتهم الملتبس، إن عبر الـ Henotheism أو الـ monolatry ، من أجل الوصول إلى وحدانيّة تبدو مطلقة، لأن شيطانها يشوبها برائحة الثنويّة إياها.
بقلم الكاتب:نبيل فياض
ارجو من الجميع التكرم والمشاركه بالرأي
الملائكة تعريفاً:
في الديانات القائمة على مفهوم الوحي، الإله والبشر بعيدون عن بعض. من هنا، فالملائكة تجسّر الهوّة بين الطرفين. الملائكة تسبّح بحمد الله، تنفّذ إرادة الله، وتحمل كلام الله. كذلك فالملائكة تساعد الناس في الوصول إلى الخلاص أو أن تنال امتيازات خاصّة. أكثر من ذلك، فحين تعمل الملائكة نيابة عن الله، يمكن لها أن تؤثّر بقضايا بشريّة عبر أفعال مثل مكافأة المؤمنين ومعاقبة الآثمين ومساعدة المحتاجين.
في كثير من الديانات العالميّة، الملائكة كائنات روحانيّة تعمل وسائط بين الله والبشر. كرسل لله، يمكن للملائكة أداء أغراض كثيرة. ودورهم يمكن أن يكون تعليم أمر، أو إفهام البشر حول مصيرهم. كذلك تلعب الملائكة دوراً هامّاً جداً في اللاهوت الخلاصي حين تقوم بتدوين أفعال المرء الصالحة أو الطالحة في هذه الدنيا، وتمكّن الإله في الحياة الأخرى من أن يدين بعدل هذا الإنسان وفق سجلاته.
بالمقابل، تميل الملائكة لأن تلعب أدواراً أقل شأناً في الأديان ذات الآلهة العديدة. وفي الديانات التي تعتبر أن الكون كلّه مقدّس وأنّ الإله والإنسان لهما الجوهر ذاته، الملائكة أقل أهمية. فليس هنالك ثمة حاجة لهم من أجل تجسير الهوة بين الآلهة والبشر. مع ذلك، حتى في هذه الديانات، ثمة كيانات روحانيّة تشبه الملائكة يمكن لها مساعدة الناس فيما يتعلّق بالإله.
كل الديانات تستعير من الديانات التي سبقتها وتتبنى موادّ قديمة لشريعتها الجديدة، واليهودية غير مستثناة هنا. والعالم الإيراني المتعلّق بالملائكة والشياطين، النور والظلمة، الله ونقيضه، وخط الزمن المقدّس، يدخل عالم الأبوكاليبس اليهودي. إن كثيراً من هذه الكتابات الأوكاليبتيّة موجود من حقبة "ما بين العهدين"، مثل سفر أخنوخ، وهو توليفة لرؤى تتعلّق بالملائكة، الشياطين، والدينونة الأخيرة. فالفكرة الأبوكاليبتيّة حول نهاية الزمان، إضافة إلى الدينونة الأخيرة من قبل الله مع حلول النهاية، تدينان بالكثير للفكر الزرادشتي.
هرميّات الملائكة التراتبيّة:
الملائكة في منظوماتها المختلفة، أو سوياتها المختلفة، كانت جزءاً من ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين القديمة. ولاحقاً في العام 400 تقريباً للميلاد، وصف الفيلسوف اليوناني ديونيسيوس الأروباجيتي هرم الملائكة؛ واعتماداً على كتاباته، تصنّف الملائكة تقليديّاً في تسعة منظومات. المنظومة العليا من الملائكة هي السرافيم، يتلوها الكروبيم، العروش، السيطرات، الفضائل، القوى، المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة. ووفقاً لهذا المخطط، تكرّس الدائرة الأولى من الملائكة – السرافيم، الكروبيم، والعروش – وقتها لتأمّل الله. الدائرة الثانية - السيطرات، الفضائل، والقوى – تحكم الكون. والدائرة الثالثة - المبادئ، رؤساء الملائكة والملائكة - تنفّذ أوامر الملائكة الأعلى.
رؤساء الملائكة هم ملائكة فائقون أو ملائكة من سويّة أعلى موجودون في عدد من التقاليد، بما فيها اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام والزرادشتيّة. كلمة رئيس ملائكة باللغة اللاتينيّة مشتقة من كلمتين يونانيتين، "أرخه" بمعنى حاكم، و"أنخيلوس"، بمعنى مرسل. يقوم الملائكة بمجموعة من الوظائف في الهرم السماوي بما فيها القيام بالواجبات السماويّة والإدارة اليوميّة للأكوان. غالباً ما يوصف رؤساء الملائكة أيضاً بأنهم منغمسون في معارك روحانيّة مستمرّة مع الشياطين، أو أنهم رسل الربّ للتفاعل مع بني البشر.
بحسب التقليدين اليهودي والمسيحي، فإن عدد رؤساء الملائكة هو سبعة، مع أن المراجع تختلف فيما بينها في أسماء وهويات هؤلاء السبعة السماويين المرافقين لله. رؤساء الملائكة الأربعة المقبولون مسيحيّاً؛ هم: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، وأوريئل؛ أما الاختلاف فيدور حول وضعية كلّ من، راغوئيل، رميئل، حموئيل، جوفيئل، زادكيئل، سيميئل، أوريفيئل، زاخريئل، سيلافيئل، جيغوديئل، وبراحيئل. وكل اسم من هذه الأسماء المختلف على مكانتها اقترح بأنه بقية أحد رؤساء الملائكة في التيارات المختلفة إن ضمن اليهوديّة أو المسيحيّة.
بمرور القرون، راح الناس يصفون وظائف الملائكة بطرق مختلفة. وتطوّر دور الملائكة ليحظى بتفاصيل هائلة في الأديان القائمة على الوحي – نقل أو إفشاء الحقيقة أو الإرادة الإلهيتين للكائنات البشريّة.
لا بدّ أن نلاحظ هنا أنّ أسماء الملائكة كلّها مستمدة من اسم الإله "إيل" في اليهوديّة، الذي غالباً ما يرد بصيغة الجمع، إيلوهيم؛ وهو إله غير أصيل عبرانيّاً. هذا يعني أن الملائكة غير ذات ترابط وثيق باسم الإله اليهودي القبلي، يهوه؛ كبعض أنبياء التوراة، يصحاك (إسحق) مثلاً. لقد قلنا في مقالات عديدة أنّه كان ثمة تنافس بين الإلهين، الأصلي والمستورد، وجد أفضل صيغه في الصراع بين إسحق (يصحاك: يهوه يضحك) وإسمعيل ( يشماعإيل: إيل يسمع)، حيث انتصر يهوه بوضوح على إيل. لكن التسوية لم تحصل إلا في زمن لاحق، وهو ما عبّرت عنه الشخصيّة الأسطوريّة الأبرز في تاريخ الميثولوجيا اليهوديّة، أي، إيل ياهو النبي. والذي يعني اسمه حرفيّاً، إيل هو يهوه. إذن، الملائكة، كما يدلّ اسمها بوضوح، مفاهيم مستوردة أقحمت في اليهوديّة لأنه لا يعقل احتشاماً أن تظل العلاقة مباشرة بين الإله وأنبيائه.
يرى غالبيّة الباحثين اليوم، أنّ مفهوم الملائكة ورؤساء الملائكة ظهر أولاً في الديانة الزرادشتيّة. لكننا نعتقد أن المفهوم أقدم من ذلك، وكما أشرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، كان لدى شعوب بلاد ما بين النهرين مفاهيمها للملائكة. وربما أنّ الكشوفات الأثريّة تدخلنا أعمق في التاريخ من الحقبة السومريّة. لكن ما بين أيدينا اليوم ينتهي عند السومريين، كنصوص مدوّنة. مع ذلك، نعتقد أن هذا التصنيف الهرمي المنظّم جاء فقط مع الزرادشتيّة، ومنها انتقل إلى اليهوديّة والمسيحية والإسلام. وكما أشرنا، تقول تعاليم الزرادشتيّة إن هنالك سبع قوى أو سلطات سماويّة، معروفة باسم الأمشا سبنتا، تعمل مع الله، أو تنبثق منه، لإدارة الكون. وجلّ الباحثين اليوم يرون أنّ هذه الفكرة تشرّبتها اليهوديّة أثناء السبي البابلي.
ليس ثمّة إشارة صريحة إلى رؤساء الملائكة في الأسفار القانونيّة في الكتاب المقدّس العبراني. مع ذلك، باستثناء أعمال متأخرة مثل دانيال، الإشارات إلى الملائكة غير شائعة. وأوّل إشارة إلى رؤساء الملائكة ترد في الأدب من فترة ما بين العهدين، كما في سفر عزرا الرابع 36:4. أما أول إشارة إلى سبعة رؤساء ملائكة فنجدها في سفر أخنوخ الأثيوبي (ترجمناه إلى العربيّة ولم ننشره)، حيث ترد قائمة السبعة كما يلي: ميكائيل، جبرائيل، رفائيل، أوريئل، راغوئيل، زراحيئل، ورميئل. من هنا جاءت الفكرة المقبولة اليوم على نطاق واسع في الدوائر الأكاديميّة الرصينة، بأن الاهتمام اليهودي بالملائكة تم تعلمه خلال حقبة السبي البابلي. يقول الحاخام شمعون بن لاقيش الطبراني (230 – 270م. تقريباً)، ( وهو أمورا بارز للغاية ) إن كل الأسماء الخاصة بالملائكة أحضرها اليهود معهم من بابل. في تقليد القبالة الربّاني، الرقم الذي يعطى لرؤساء الملائكة لا يقل عن سبعة عادة: اسم واحد جديد هنا، ساريئل. أحياناً نجد اسماً جديداً آخر هو حنيئل.
الزرادشتيّة واليهوديّة:
تأثر الرأي المتعلّق بالملائكة في اليهوديّة بالزرادشتيّة. فالميثولوجيا الزرادشتيّة تصف صداماً كونيّاً بين أهورا مزدا وأهريمن – قوتا الخير والشر مع جيوشهما من الملائكة والشياطين. ومثل أهورا مزدا، إله العهد القديم يهوه له جيش ملائكة. وهؤلاء الملائكة المحاربون يخوضون غمار حرب ضدّ قوى الشرّ بقيادة الشيطان، الذي يشبه أهريمن. وفي أعقاب الرأي الزرادشتي، تقسم اليهوديّة الكون إلى ثلاثة أقسام: الأرض، السماء (الجنّة) والجحيم. الأرض هي وطن البشر. السماء محجوزة لله وملائكته. الجحيم هو العالم المظلم للشيطان وأتباعه. والملائكة تقوم بدور متشابه في الديانتين، حيث أنها تربط السماء بعالم البشر وتكشف لهم خطط الله وقوانينه. إن وظيفتهم هي خدمة الله وتنفيذ إرادته. فهم يكافئون على الخير ويعاقبون على الشر والجور. كذلك فهم يساعدون الناس على فهم إرادة الله، ويأخذون أنفس الأخيار إلى الجنة.
مختصر إجمالي:
نحاول في هذه الفقرة أن نختصر الأفكار الكثيرة الواردة في مقالتنا هذه، دون أن نشيؤ بالطبع إلى ضرورة متابعة السلسة من باديتها. لاشك أن مواضع التشابه بين الزرادشتيّة واليهوديّة، ومن ثم بين الأولى من جهة والمسيحيّة والإسلام من جهة أخرى، تبدو كثيرة وملفتة. فأهورا مزدا، إله إيران الأعلى، كلّي العلم، كلي الوجود، والخالد، المعطى قوّة الخلق، والتي يمارسها بشكل خاص عبر وساطة سبنتا مانيو ("الروح القدس")، ويحكم الكون بوساطة الملائكة ورؤساء الملائكة، يمدّنا بأقرب مواز ليهوه، إله اليهود، ومن ثم الله، إله المسلمين، يمكن أن نجده في العالم القديم. لكنّ قوة أورموزد (أهورا مزدا) معاقة من قبل عدوّه، أهريمن، والذي ستدمّر سطوته مع نهاية العالم. الشيطان، بجيشه من الملائكة الساقطين أو الأبالسة، يقدّم لنا الموازي الفعلي والحقيقيّ في اليهودية- المسيحيّة- الإسلام لأهريمن (أنغرا مانيو) الزرادشتي. بل يبدو لنا أحياناً أنّ قوّة الشيطان تتفوّق على قوّة يهوه- الله في ما يسمى بالديانات السماويّة. هذا يعني، رغم زعم ما يسمى بالأديان السماوية أنها توحيدية بالمطلق، أن الثنوية غير غائبة فيها عبر نقيض إله الخير، الشيطان. وقد أشار الباحثان الربّانيّان اليهوديّان، شور وكوهوت، واللاهوتي المسيحي، ستيف، إلى كثرة التشابهات بين الديانتين محط دراستنا.
بقي أن نقول، إنه ربما ساعدت الثنويّة الإلهية في الزرادشتيّة علماء اليهود في التخلّي عن شكل وحدانيتهم الملتبس، إن عبر الـ Henotheism أو الـ monolatry ، من أجل الوصول إلى وحدانيّة تبدو مطلقة، لأن شيطانها يشوبها برائحة الثنويّة إياها.
بقلم الكاتب:نبيل فياض
ارجو من الجميع التكرم والمشاركه بالرأي
الجمعة أبريل 28, 2023 12:51 pm من طرف ALASFOOR
» اقتراحات ونقاشات
الخميس أغسطس 06, 2015 12:58 am من طرف Ranin habra
» أسئلة امتحانات للسنوات 2012 وما بعد
الخميس يوليو 30, 2015 2:17 pm من طرف محمد أحمد الحاج قاسم
» أسئلة سنوات سابقة
الجمعة يوليو 03, 2015 6:20 pm من طرف مهاجرة سورية
» النظم السياسية
الأربعاء يونيو 24, 2015 5:33 pm من طرف مهاجرة سورية
» اسئلة الدورات
الأربعاء مايو 27, 2015 7:17 pm من طرف بلقيس
» السؤال عن برنامج الامتحانات لسنة 2015
الثلاثاء مايو 19, 2015 3:41 am من طرف Abu anas
» يتبع موضوع المسلمون بين تغيير المنكر وبين الصراع على السلطة
الإثنين مايو 04, 2015 5:01 pm من طرف حسن
» المسلمون بين تغيير المنكر والصراع على السلطة
الأحد مايو 03, 2015 1:42 pm من طرف حسن
» ما هو المطلوب و المقرر للغة العربية 2
الثلاثاء أبريل 21, 2015 7:47 am من طرف أم البراء
» طلب عاجل : مذكرة الاسلام والغرب ( نحن خارج سوريا)
السبت مارس 14, 2015 3:50 pm من طرف feras odah
» مساعدة بالمكتبة الاسلامية
الخميس فبراير 26, 2015 2:32 pm من طرف ام الحسن
» هنا تجدون أسئلة الدورات السابقة لمادة الجهاد الإسلامي
الجمعة فبراير 20, 2015 8:55 pm من طرف راما جديد
» للسنة الثالثه __اصول الفقه الأسلامي3 )) رقم 2
الخميس فبراير 12, 2015 1:16 am من طرف Amir Antap
» محركات مواقع البحث عن الكتب والرسائل الجامعية
الأحد فبراير 08, 2015 11:20 pm من طرف Amir Antap