عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة، أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين، فلا شك أن تلك الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة.
لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة العثمانية نفسها، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد الكاسد بفصل الدين عن الدولة، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن، ذلك الفرقان الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب»(9). وكان هذا «الفصل» بين الدين والدولة، أو بين الشرع والحُكم، تضييعاً للشرع وإضعافاً للحُكم، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا معاً، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة، كما أخبر الصادق المصدوق في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحُكم، وآخرهن الصلاة»(2).
وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض، إلا ويتسلط عليها شياطين الإنس، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي، وانتهاء بإقامة الصلاة التي جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إقامة الولاة لها في الناس فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن حكم أئمة الجور قائلين: «أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة»(3).
الأمر إذن، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها. {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49].
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه، وذلك في شرائعه وشعائره، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام (حاكم) يُحْكم قياد العباد، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإنَّ الظَّالِـمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْـمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19].
ü عُرى الشيطان تنازع أوثق عُرى الإيمان:
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى (عثمانيين وأجانب)؛ فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى (رابطة عثمانية) وذلك عن طريق ما يسمى بـ (إعلان التنظيمات العثمانية) الصادر في عام (1255 هـ) (1839م) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى: مسلمين عثمانيين، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية، ومسلمين غير عثمانيين، عدَّهم الإعلان (أجانب)!
وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس، بينما وُضع الآخرون (الأجانب) من المسلمين في خانة أدنى، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية، ولكن ذلك الإجراء مضى، وتطاولت به السنون، حتى تحولت النزعة «العثمانية» إلى نزعة «طورانية»(4)، يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى (قـوم) متميزون، ونـشأ بذلك ما سـمي بـ (القومية الطورانية) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها (القومية العربية) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- للمتنازعين من المهاجرين والأنصار: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة»(5)، وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا: (يا للأنصار!) وقال آخرون: (يا للمهاجرين!)، فقال لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله الآنف.
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام، ظل معمولاً بها، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني (1876 ـ 1909م) فغير تلك السياسة، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني (ت 1897م)، والشيخ محمد عبده (ت 1905م) من خلال جمعية (العروة الوثقى) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه، إذا بآخرين من أمثال (عبد الرحمن الكواكبي) ( ت 1902م) يأخذون توجهاً آخر، فينادون بـ (جامعة عربية) وخلافة عربية!! وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء(6)، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين.
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك، فنادوا بجامعة طورانية، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة.
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى ـ وهو أمر منكر ـ جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي. ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون، عرباً كانوا أو عجماً، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية؛ فتخاض لأجلها الحروب، وتُشكَّل لها الأحــزاب، بل وتقــوم عليها الـدول.
أما في تركيا نفسها، فقد تشكل فريق (القومية الطورانية) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية، ومن ثم الخلافة الإسلامية، وكانت جمعية (الاتحاد والترقي) أداتهم في ذلك، وكانت أولى إنجازاتهــم السـوداء أن انقلبـوا على الســلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية؛ وذلك في عام 1908م، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع، أطاح به الكماليون. ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة (التتريك) لكل مظاهر الدولة، تمهيداً للانتقال من منزلة (القومية) الطورانية التركية الإقليمية، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو (الوطنية) التركية المحلية، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس، صاحب الأصل اليهودي البئيس (مصطفى كمال أتاتورك).
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً ـ في شخص علمائها ومفكريها ـ إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة، أو منطق اللسان، أو انحدار العرق، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد، بين المسلم الأمريكي، والمسلم الإفريقي، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض. {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
أما العلمانية المنافقة الماجنة، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه: «لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين».
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في (28/6/1910م): «الآن، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب»! أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام، بدءاً من حل رابطته، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم؛ فبعد أن أخفق (تيودور هرتزل) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية، حتى إن اللورد ستون، صاحب كتاب (نشوء القومية) في تركيا كتب يقول: «العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية»، وقال: «إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً، أو مسلمين من أصل يهودي، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق «الدونمة» ويهود سالونيكا الأثرياء، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا وبودابست وبرلين، وربما من باريس ولندن أيضاً...»(7
الجمعة أبريل 28, 2023 12:51 pm من طرف ALASFOOR
» اقتراحات ونقاشات
الخميس أغسطس 06, 2015 12:58 am من طرف Ranin habra
» أسئلة امتحانات للسنوات 2012 وما بعد
الخميس يوليو 30, 2015 2:17 pm من طرف محمد أحمد الحاج قاسم
» أسئلة سنوات سابقة
الجمعة يوليو 03, 2015 6:20 pm من طرف مهاجرة سورية
» النظم السياسية
الأربعاء يونيو 24, 2015 5:33 pm من طرف مهاجرة سورية
» اسئلة الدورات
الأربعاء مايو 27, 2015 7:17 pm من طرف بلقيس
» السؤال عن برنامج الامتحانات لسنة 2015
الثلاثاء مايو 19, 2015 3:41 am من طرف Abu anas
» يتبع موضوع المسلمون بين تغيير المنكر وبين الصراع على السلطة
الإثنين مايو 04, 2015 5:01 pm من طرف حسن
» المسلمون بين تغيير المنكر والصراع على السلطة
الأحد مايو 03, 2015 1:42 pm من طرف حسن
» ما هو المطلوب و المقرر للغة العربية 2
الثلاثاء أبريل 21, 2015 7:47 am من طرف أم البراء
» طلب عاجل : مذكرة الاسلام والغرب ( نحن خارج سوريا)
السبت مارس 14, 2015 3:50 pm من طرف feras odah
» مساعدة بالمكتبة الاسلامية
الخميس فبراير 26, 2015 2:32 pm من طرف ام الحسن
» هنا تجدون أسئلة الدورات السابقة لمادة الجهاد الإسلامي
الجمعة فبراير 20, 2015 8:55 pm من طرف راما جديد
» للسنة الثالثه __اصول الفقه الأسلامي3 )) رقم 2
الخميس فبراير 12, 2015 1:16 am من طرف Amir Antap
» محركات مواقع البحث عن الكتب والرسائل الجامعية
الأحد فبراير 08, 2015 11:20 pm من طرف Amir Antap