ينطلق أحمد داوود أوغلو في كتابه "العمق الإستراتيجي" من اعتبار أن قيمة الدولة في العلاقات الدولية تتحدد بشكل رئيسي من موقعها الجيوإستراتيجي، ومن عمقها التاريخي.
وعليه فإن تركيا ذات الهوية المركبة من هوية شرق أوسطية وبلقانية وآسيوية عليها أن تنهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم استقرار داخلي وإقليمي، لأنه بواسطتهما يتحقق الأمن القومي التركي، الأمر الذي يترتب عليه ضرورة أن توظف تركيا، أمثل التوظيف، موروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية.
ومعلوم أن مفهوم "العمق الإستراتيجي" يجري تداوله عادة في الأدبيات العسكرية، إلا أن وزير الخارجية التركية يحاول أقلمته واستثماره في ميدان العلوم السياسية، وبالتحديد في علاقات بلاده الدولية، من خلال رصد مظاهر هذا العمق الذي تتمتع به تركيا، ساعياً إلى إخراجها من حالة الطرفية والهامشية، التي عاشتها خلال مرحلة الحرب الباردة وكانت تلعب فيها تركيا دور البلد العضو في حلف الناتو، ونقلها إلى مصاف بلد مركزي، فاعل ومبادر، ويقوم بأدوار محورية ومؤثرة في مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
التراجع التركي
ويعتبر أوغلو أن جملة الخصائص الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية تشكل وحدة تكاملية في ظل استيعاب العامل التاريخي للمجتمعات، وأن كلا من المرجعية الحضارية لأي مجتمع، وهويته الثقافية والأنماط التي أفرزتها المسيرة التاريخية على التنظيمات المجتمعية وخارجها، هي بمثابة معطيات ثابتة في معادلة القوة لأي بلد.
وتشكل الثقة بالذات الحضارية مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر.
ولكي تكون الدولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية يتعين على نظامها ومسؤوليها مراعاة التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، مع أنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
وقد تصرفت تركيا خلال العقود الثمانية من تاريخ الجمهورية الكمالية في القرن العشرين المنصرم بأقل مما تسمح لها مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها، في سياساتها الإقليمية والدولية، وتعود أسباب هذا التراجع إلى سياسة القطيعة، التي انتهجتها الدولة الأتاتوركية، كي تفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، وغلّبت فيها الأمن على الحرية، الأمر الذي أحدث أزمة هوية طاحنة في أوساط النخب التركية، وأفضى إلى تعميق الانقسام بين التيارات العلمانية والجماعات الإسلامية.
وبالرغم من أن تركيا كانت تنزع باستمرار إلى لعب دور القيادة، ولها من الكسب التاريخي ما يطمئنها على مقدرتها، إلا أن عملية التحديث التي قام بها أتاتورك ورفاقه لم تتمكن من سد الثغرة الحاصلة، بين ما كان ممكناً من الناحية السياسية، ووفقا لما كانت تأمله شعارات أتاتورك، وبين ما كان مطلوباً لقيام تركيا بأدوارها القيادية التاريخية.
وكانت تركيا، خلال الحرب الباردة، إحدى أهم ركائز حلف الناتو، بوصفها إحدى دول الحلف، التي تمكنت من احتواء الشيوعية، لذلك كانت موضع ثقة الغرب. وكان الولاء للغرب، ذو الطابع العسكري، يتماشى مع تطلعات النخب الأتاتوركية الحاكمة، الذين حولوا تركيا إلى حارس أمين للمنطقة الجنوبية الشرقية لأوروبا من خطر التمدد الشيوعي.
وحين تحررت تركيا من مواجهات الصراع الجغرافي السياسي للحرب الباردة بين الشرق والغرب، بدأت في العمل على إثبات وجودها، إذ لم يعد بالإمكان اعتبار تركيا بلداً طرفياً في إستراتيجية الغرب، بل دولة مركزية لها عمقها الإستراتيجي، وذلك بالاستناد إلى العلاقة الوثيقة ما بين الموقع الجغرافي للدولة وبين مستقبل قوتها ودورها السياسي.
وتمكنت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية من الاستفادة من التحولات العميقة، التي طرأت على الخارطة السياسية الدولية، وإلى لعب دور هام على المستويين الإقليمي والدولي، وعاد الأتراك مع مطلع القرن الحادي والعشرين بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، وخصوصاً بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا بالمقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية من دون التخلي عن الوجهات الأخرى، والطموح التركي بالانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي
الشرق الأوسط
تظهر قراءة الكتاب أن منطقة الشرق الأوسط تحتل حيزاً كبيراً في تفكير أوغلو، الأمر الذي يبين مدى الأهمية التي توليها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية لهذه المنطقة الإستراتيجية، حيث يبحث أوغلو بدقة في مختلف قضايا الشرق الأوسط، مبرزاً فيها طبيعة الدور الذي يمكن لتركيا أن تنهض به السياسة التركية، وبما يعزز طموحها الإمبريالي، ومكانتها الدولية، بالاستفادة من عمقها التاريخي والجغرافي والثقافي في المنطقة.
ويجد مسعى أوغلو في ما تتمتع به تركيا من عمق إستراتيجي في البلدان العربية والإسلامية في الشرق الأوسط، وفي أوضاعها الجيوإستراتيجية والجيواقتصادية الراهنة، معتبراً أن تركيا تمثل الوريث التاريخي لآخر كيان جامع (الدولة العثمانية) في المنطقة، لذلك عليها اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكنها من تجاوز الانقسامات والتمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، ومن الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلاً متكاملاً، ويتوجب عليها تطبيق هذه الرؤية بمرونة تكتيكية، مع عدم إغفال أي فاعل داخل التوازنات الدولية والإقليمية.
وهو أمر يتطلب رؤية جديدة، تقيم وفقها علاقاتها وتجربتها المتراكمة بالابتعاد عن المقولات والهواجس الأيديولوجية، وتحدد بصورة عملية وعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع دول العالم الإسلامي، فتركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي كانت تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله.
كما أنها ليست في حالة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية، وبالتالي، فإن أية ردود فعل تأخذ طابعاً نفسياً وعاطفياً، ستؤثر سلباً على مجمل علاقات تركيا مع بلدان العالم الإسلامي، وسيتعدى تأثيرها إلى تقليص مساحة المناورة للدبلوماسية التركية في العمق الآسيوي والأفريقي كذلك.
وقد فقدت تركيا الأحزمة الإستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط، خلال الربع الأول من القرن العشرين، فعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعه الثاني والثالث كذلك، ثم طورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، وجدت تركيا نفسها منغمسة بمصير مسلمي البوسنة وكوسوفو وألبانيا وبلغاريا، وأنها لم تجنِ سوى حالة من فقدان التوازن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث لم تجلب لها العلاقة الوثيقة جداً مع إسرائيل سوى العداء مع البلدان العربية.
وبالتالي توجب عليها تغير المسار مع حزب العدالة والتنمية الموصوف، ووجدت نفسها مضطرة كي تعيد تقييم علاقاتها مع دول المنطقة من جديد وبشكل جذري، ومعنية بتطوير وجهة نظرها بشكل يجعلها قادرة على التحسس المستمر لنبض العالم العربي، وتلمس إيقاع التغير الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد أولي للدبلوماسية التركية.
الإستراتيجية التركية
يحدد أوغلو رؤيته للإستراتيجية التركية حيال الشرق الأوسط في جملة من العناصر، اللازم توفرها للتحرك وفق إستراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية، وتبني سياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين التكتيكات الدبلوماسية والعسكرية، إلى جانب التحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية.
وتكمن عناصر الإستراتيجية في تجاوز العوائق السيكولوجية التي أثرت سلباً على الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة، وإقامة أبنية مؤسسية وأكاديمية تتابع التطورات الإقليمية عن كثب وتقييمها، وتوفر تصورات وسيناريوهات متعمقة، وإقامة علاقة سليمة بين التوازنات الدولية وبين السياسة الواقعية الإقليمية، وطرح مشروعات شاملة للمنطقة بأسرها، والمبادرة إلى تشكيل مجالات المصالح المشتركة التي تعزز السلام في المنطقة، والعمل على الحيلولة دون تشكل تكتلات قومية مضادة تمثل ساحات أخطار جيوسياسية وجيوثقافية ضد السلام في المنطقة، والحد من إثارة ردود الأفعال من خلال تنويع العلاقات الثنائية، وتبني مقاربة عالية التأثير والفاعلية والمبادرة في كل مجالات المشكلات الإقليمية وفي مقدمتها عملية السلام في الشرق الأوسط، وأخيراً تكثيف الاتصالات والعلاقات الأفقية التي تعزز من صورة تركيا في المنطقة.
وتتحدد أهمية الشرق الأوسط في الإستراتيجية التركية، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة الأميركية، نظراً لأنها تعتبره يشكل ثقلاً موازياً للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً هاماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة.
وبغية استعادة مكانة تركيا في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، يحدد أوغلو أسس السياسة الخارجية التركية في ضرورة الالتزام بستة مبادئ، تتجسد في التوازن السليم بين الحرية والأمن ومبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار، والتأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، ومبدأ السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، ومبدأ الدبلوماسية المتناغمة، واتباع أسلوب دبلوماسي جديد.
وقد نهض التحرك السياسي التركي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002 على جملة هذه المبادئ، وخصوصاً مبدأ التوازن بين حرية التحرك والأمن، وبشكل لا يفضي إنجاز الحرية إلى تهديد الأمن، الأمر الذي اقتضى المبادرة والسعي إلى حلّ المشكلات والصراع في المناطق المحيطة بتركيا، وتجسدت هذه السياسة في الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل وبين الأطراف المتصارعة في العراق واليمن.
كما تجسدت من خلال فتح الحوار الإستراتيجي مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، والعمل على تحقيق الأمن المتبادل، والتعاون الاقتصادي المتبادل بين تركيا وجيرانها، إلى جانب السعي إلى التعايش الثقافي، وذلك انطلاقاً من عملية "التمكين المتبادل" التي تريد تركيا بواسطتها تحقيق التمكين الذاتي، والإسهام في تمكين الآخرين من أجل الاستقرار في المنطقة.
المصدر:أخبار العالم
وعليه فإن تركيا ذات الهوية المركبة من هوية شرق أوسطية وبلقانية وآسيوية عليها أن تنهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم استقرار داخلي وإقليمي، لأنه بواسطتهما يتحقق الأمن القومي التركي، الأمر الذي يترتب عليه ضرورة أن توظف تركيا، أمثل التوظيف، موروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية.
ومعلوم أن مفهوم "العمق الإستراتيجي" يجري تداوله عادة في الأدبيات العسكرية، إلا أن وزير الخارجية التركية يحاول أقلمته واستثماره في ميدان العلوم السياسية، وبالتحديد في علاقات بلاده الدولية، من خلال رصد مظاهر هذا العمق الذي تتمتع به تركيا، ساعياً إلى إخراجها من حالة الطرفية والهامشية، التي عاشتها خلال مرحلة الحرب الباردة وكانت تلعب فيها تركيا دور البلد العضو في حلف الناتو، ونقلها إلى مصاف بلد مركزي، فاعل ومبادر، ويقوم بأدوار محورية ومؤثرة في مختلف القضايا الإقليمية والدولية.
التراجع التركي
ويعتبر أوغلو أن جملة الخصائص الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية تشكل وحدة تكاملية في ظل استيعاب العامل التاريخي للمجتمعات، وأن كلا من المرجعية الحضارية لأي مجتمع، وهويته الثقافية والأنماط التي أفرزتها المسيرة التاريخية على التنظيمات المجتمعية وخارجها، هي بمثابة معطيات ثابتة في معادلة القوة لأي بلد.
وتشكل الثقة بالذات الحضارية مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر.
ولكي تكون الدولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية يتعين على نظامها ومسؤوليها مراعاة التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، مع أنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
وقد تصرفت تركيا خلال العقود الثمانية من تاريخ الجمهورية الكمالية في القرن العشرين المنصرم بأقل مما تسمح لها مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها، في سياساتها الإقليمية والدولية، وتعود أسباب هذا التراجع إلى سياسة القطيعة، التي انتهجتها الدولة الأتاتوركية، كي تفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، وغلّبت فيها الأمن على الحرية، الأمر الذي أحدث أزمة هوية طاحنة في أوساط النخب التركية، وأفضى إلى تعميق الانقسام بين التيارات العلمانية والجماعات الإسلامية.
وبالرغم من أن تركيا كانت تنزع باستمرار إلى لعب دور القيادة، ولها من الكسب التاريخي ما يطمئنها على مقدرتها، إلا أن عملية التحديث التي قام بها أتاتورك ورفاقه لم تتمكن من سد الثغرة الحاصلة، بين ما كان ممكناً من الناحية السياسية، ووفقا لما كانت تأمله شعارات أتاتورك، وبين ما كان مطلوباً لقيام تركيا بأدوارها القيادية التاريخية.
وكانت تركيا، خلال الحرب الباردة، إحدى أهم ركائز حلف الناتو، بوصفها إحدى دول الحلف، التي تمكنت من احتواء الشيوعية، لذلك كانت موضع ثقة الغرب. وكان الولاء للغرب، ذو الطابع العسكري، يتماشى مع تطلعات النخب الأتاتوركية الحاكمة، الذين حولوا تركيا إلى حارس أمين للمنطقة الجنوبية الشرقية لأوروبا من خطر التمدد الشيوعي.
وحين تحررت تركيا من مواجهات الصراع الجغرافي السياسي للحرب الباردة بين الشرق والغرب، بدأت في العمل على إثبات وجودها، إذ لم يعد بالإمكان اعتبار تركيا بلداً طرفياً في إستراتيجية الغرب، بل دولة مركزية لها عمقها الإستراتيجي، وذلك بالاستناد إلى العلاقة الوثيقة ما بين الموقع الجغرافي للدولة وبين مستقبل قوتها ودورها السياسي.
وتمكنت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية من الاستفادة من التحولات العميقة، التي طرأت على الخارطة السياسية الدولية، وإلى لعب دور هام على المستويين الإقليمي والدولي، وعاد الأتراك مع مطلع القرن الحادي والعشرين بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، وخصوصاً بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا بالمقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية من دون التخلي عن الوجهات الأخرى، والطموح التركي بالانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي
الشرق الأوسط
تظهر قراءة الكتاب أن منطقة الشرق الأوسط تحتل حيزاً كبيراً في تفكير أوغلو، الأمر الذي يبين مدى الأهمية التي توليها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية لهذه المنطقة الإستراتيجية، حيث يبحث أوغلو بدقة في مختلف قضايا الشرق الأوسط، مبرزاً فيها طبيعة الدور الذي يمكن لتركيا أن تنهض به السياسة التركية، وبما يعزز طموحها الإمبريالي، ومكانتها الدولية، بالاستفادة من عمقها التاريخي والجغرافي والثقافي في المنطقة.
ويجد مسعى أوغلو في ما تتمتع به تركيا من عمق إستراتيجي في البلدان العربية والإسلامية في الشرق الأوسط، وفي أوضاعها الجيوإستراتيجية والجيواقتصادية الراهنة، معتبراً أن تركيا تمثل الوريث التاريخي لآخر كيان جامع (الدولة العثمانية) في المنطقة، لذلك عليها اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكنها من تجاوز الانقسامات والتمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، ومن الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلاً متكاملاً، ويتوجب عليها تطبيق هذه الرؤية بمرونة تكتيكية، مع عدم إغفال أي فاعل داخل التوازنات الدولية والإقليمية.
وهو أمر يتطلب رؤية جديدة، تقيم وفقها علاقاتها وتجربتها المتراكمة بالابتعاد عن المقولات والهواجس الأيديولوجية، وتحدد بصورة عملية وعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع دول العالم الإسلامي، فتركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي كانت تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله.
كما أنها ليست في حالة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية، وبالتالي، فإن أية ردود فعل تأخذ طابعاً نفسياً وعاطفياً، ستؤثر سلباً على مجمل علاقات تركيا مع بلدان العالم الإسلامي، وسيتعدى تأثيرها إلى تقليص مساحة المناورة للدبلوماسية التركية في العمق الآسيوي والأفريقي كذلك.
وقد فقدت تركيا الأحزمة الإستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط، خلال الربع الأول من القرن العشرين، فعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعه الثاني والثالث كذلك، ثم طورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، وجدت تركيا نفسها منغمسة بمصير مسلمي البوسنة وكوسوفو وألبانيا وبلغاريا، وأنها لم تجنِ سوى حالة من فقدان التوازن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث لم تجلب لها العلاقة الوثيقة جداً مع إسرائيل سوى العداء مع البلدان العربية.
وبالتالي توجب عليها تغير المسار مع حزب العدالة والتنمية الموصوف، ووجدت نفسها مضطرة كي تعيد تقييم علاقاتها مع دول المنطقة من جديد وبشكل جذري، ومعنية بتطوير وجهة نظرها بشكل يجعلها قادرة على التحسس المستمر لنبض العالم العربي، وتلمس إيقاع التغير الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد أولي للدبلوماسية التركية.
الإستراتيجية التركية
يحدد أوغلو رؤيته للإستراتيجية التركية حيال الشرق الأوسط في جملة من العناصر، اللازم توفرها للتحرك وفق إستراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية، وتبني سياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين التكتيكات الدبلوماسية والعسكرية، إلى جانب التحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية.
وتكمن عناصر الإستراتيجية في تجاوز العوائق السيكولوجية التي أثرت سلباً على الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة، وإقامة أبنية مؤسسية وأكاديمية تتابع التطورات الإقليمية عن كثب وتقييمها، وتوفر تصورات وسيناريوهات متعمقة، وإقامة علاقة سليمة بين التوازنات الدولية وبين السياسة الواقعية الإقليمية، وطرح مشروعات شاملة للمنطقة بأسرها، والمبادرة إلى تشكيل مجالات المصالح المشتركة التي تعزز السلام في المنطقة، والعمل على الحيلولة دون تشكل تكتلات قومية مضادة تمثل ساحات أخطار جيوسياسية وجيوثقافية ضد السلام في المنطقة، والحد من إثارة ردود الأفعال من خلال تنويع العلاقات الثنائية، وتبني مقاربة عالية التأثير والفاعلية والمبادرة في كل مجالات المشكلات الإقليمية وفي مقدمتها عملية السلام في الشرق الأوسط، وأخيراً تكثيف الاتصالات والعلاقات الأفقية التي تعزز من صورة تركيا في المنطقة.
وتتحدد أهمية الشرق الأوسط في الإستراتيجية التركية، بوصفه مجالاً جغرافياً، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة الأميركية، نظراً لأنها تعتبره يشكل ثقلاً موازياً للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً هاماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة.
وبغية استعادة مكانة تركيا في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، يحدد أوغلو أسس السياسة الخارجية التركية في ضرورة الالتزام بستة مبادئ، تتجسد في التوازن السليم بين الحرية والأمن ومبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار، والتأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، ومبدأ السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، ومبدأ الدبلوماسية المتناغمة، واتباع أسلوب دبلوماسي جديد.
وقد نهض التحرك السياسي التركي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002 على جملة هذه المبادئ، وخصوصاً مبدأ التوازن بين حرية التحرك والأمن، وبشكل لا يفضي إنجاز الحرية إلى تهديد الأمن، الأمر الذي اقتضى المبادرة والسعي إلى حلّ المشكلات والصراع في المناطق المحيطة بتركيا، وتجسدت هذه السياسة في الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل وبين الأطراف المتصارعة في العراق واليمن.
كما تجسدت من خلال فتح الحوار الإستراتيجي مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، والعمل على تحقيق الأمن المتبادل، والتعاون الاقتصادي المتبادل بين تركيا وجيرانها، إلى جانب السعي إلى التعايش الثقافي، وذلك انطلاقاً من عملية "التمكين المتبادل" التي تريد تركيا بواسطتها تحقيق التمكين الذاتي، والإسهام في تمكين الآخرين من أجل الاستقرار في المنطقة.
المصدر:أخبار العالم
الجمعة أبريل 28, 2023 12:51 pm من طرف ALASFOOR
» اقتراحات ونقاشات
الخميس أغسطس 06, 2015 12:58 am من طرف Ranin habra
» أسئلة امتحانات للسنوات 2012 وما بعد
الخميس يوليو 30, 2015 2:17 pm من طرف محمد أحمد الحاج قاسم
» أسئلة سنوات سابقة
الجمعة يوليو 03, 2015 6:20 pm من طرف مهاجرة سورية
» النظم السياسية
الأربعاء يونيو 24, 2015 5:33 pm من طرف مهاجرة سورية
» اسئلة الدورات
الأربعاء مايو 27, 2015 7:17 pm من طرف بلقيس
» السؤال عن برنامج الامتحانات لسنة 2015
الثلاثاء مايو 19, 2015 3:41 am من طرف Abu anas
» يتبع موضوع المسلمون بين تغيير المنكر وبين الصراع على السلطة
الإثنين مايو 04, 2015 5:01 pm من طرف حسن
» المسلمون بين تغيير المنكر والصراع على السلطة
الأحد مايو 03, 2015 1:42 pm من طرف حسن
» ما هو المطلوب و المقرر للغة العربية 2
الثلاثاء أبريل 21, 2015 7:47 am من طرف أم البراء
» طلب عاجل : مذكرة الاسلام والغرب ( نحن خارج سوريا)
السبت مارس 14, 2015 3:50 pm من طرف feras odah
» مساعدة بالمكتبة الاسلامية
الخميس فبراير 26, 2015 2:32 pm من طرف ام الحسن
» هنا تجدون أسئلة الدورات السابقة لمادة الجهاد الإسلامي
الجمعة فبراير 20, 2015 8:55 pm من طرف راما جديد
» للسنة الثالثه __اصول الفقه الأسلامي3 )) رقم 2
الخميس فبراير 12, 2015 1:16 am من طرف Amir Antap
» محركات مواقع البحث عن الكتب والرسائل الجامعية
الأحد فبراير 08, 2015 11:20 pm من طرف Amir Antap