تكلم الفقهاء قديما عن الشركات, وذكروا لها تعريفات عدة, من أوجزها وأوضحها: أن الشركة هي: (اجتماع في استحقاق, أو تصرف).
وقد أشار لفظ الاجتماع إلى ضرورة كون الشركة بين شخصين فأكثر, وهذا من أركان الشركة التي اتفق عليها الفقهاء والقانونيون, ثم تمرد القانونيون على هذا الركن فأهدروه حين سمحوا بوجود الشركة ذات الشخص الواحد, والتي سأتحدث عنها في مقال لاحق ـ بإذن الله.
وبقية التعريف السابق يشير إلى نوعي الشركات عند الفقهاء, فالاستحقاق يشير إلى النوع الأول من أنواع الشركات, وهو شركة الأملاك, وتسمى في القانون: شركة الشيوع. ومن تطبيقاتها الشركة في الإرث, ودليلها قول الله تعالى: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث), ومنه الاشتراك في الغنيمة, ومنه قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..) ولا خلاف في مشروعيتها بين العلماء. وسواء كانت شركة الأملاك في عين, كالاشتراك في عمارة أو سيارة, أو في دين في ذمة الشريك مثلا, أو في منفعة كالاشتراك في منفعة عقار كصكوك تأجير, أو في حق كالاشتراك في حق شفعة مثلا.
أما الشق الثاني من التعريف وهو الاجتماع في تصرف, فيشير إلى النوع الثاني من أنواع الشركة, وهي شركة العقود, وهي المقصودة فقهاً في باب الشركة, وأنواعها خمسة:
1- شركة العِنان: وهي»أن يشترك اثنان - فأكثر- ببدنيهما, وماليهما المعلوم, ليعملا فيه ببدنيهما, أو ببدن أحدهما, والربح بينهما على ما شرطاه». فينفذ تصرف كل واحد منهما في ماليهما بحكم الملك في نصيبه, والوكالة في نصيب شريكه. وهذه الشركة جائزة بالإجماع, ومن تطبيقاتها الحديثة شركة المساهمة, فهي تشبه شركة العنان من جهة أن التمويل يقع من كل الشركاء, وأما الإدارة فيمارسها بعض مؤسسي الشركة على نسبة من الربح, كما في بعض صور توزيع الربح بالشركة المساهمة, وأيضاً تشبه الشركة ذات المسؤولية المحدودة, مع اختلاف يسير لا يضر بالتكييف الفقهي, وبتأمل تعريف شركة العنان يظهر لها قسمة ثنائية, وهما:
أ ـ إما أن يمولا جميعاً, ويعملا جميعا. فهي شركة عنان.
ب ـ وإما أن يمولا جميعاً, ويعمل أحدهما. فهي شركة عنان ومضاربة.
2- شركة المفاوضة: وهي من الشركات الجائزة على الأرجح, ويعرفها الفقهاء بأنها «أن يفوض الشريك إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة, فما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه». وبهذا يتبين أن الفرق بين شركة العنان والمفاوضة: أن الشريك في المفاوضة مشارك بماله وعمله - كالشريك في العنان - لكنه هنا مفوض في جميع الأعمال, وكفيل عن الآخر, فهو وكيل, وكفيل أيضا, فمثلاً: لو كان على أحد الشريكين دين مقداره مليون ريال, فللدائن أن يطالب أي واحد من الشريكين بكامل المبلغ, ثم يرجع الشريك على شريكه بما دفعه, كما هو الحال في المسؤولية التضامنية بين الشركاء المتضامنين في الشركة التضامنية أو في شركة التوصية البسيطة أو بالأسهم, حيث يكون كل شريك وكيلاً وكفيلاً عن الآخر.
3- شركة المضاربة»وتسمى شركة القراض»: وتسمى مضاربة أخذاً من الضرب في الأرض؛ لأن التاجر يسافر في طلب الربح, كما في قوله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله..) وقوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة..) وقد أجمع العلماء على جوازها, وقد كان النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يضارب بمال خديجة ــ رضي الله عنها ــ قبل البعثة, ويعرفها الفقهاء بأنها»دفع مال لمن يتجر به ببعض ربحه». وهي الأكثر شبهاً بالمساقاة, والمزارعة, كما أنها تشبه شركة التوصية البسيطة في النظام, من جهة أن الشريك المتضامن فيها قد لا يقدم إلا حصة العمل, أما الشريك الموصي فهو الممول الرئيس للشركة, وإن كان الشريك المتضامن قد يمول أحياناً, وخاصة في الشركات العائلية.
ولشركة المضاربة عند الفقهاء ثلاثة أنواع:
أ ــ أن يمول أحد الشريكين, ويعمل الآخر.
ب ــ أن يمول أحدهما, ويعملا جميعاً.
ت ــ أن يمولا جميعاً, ويعمل أحدهما.
4 - شركة الوجوه «وتسمى الذمم, والمفاليس»، وهي عند الفقهاء «أن يشتريا في ذمتهما بجاههما, فما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه»، وبهذا يظهر أن الشركاء هنا يبدأون الشركة وهم لا يملكون فلساً واحدا, ولهذا سميت شركة المفاليس. وهي مشروعة على الأرجح من قولي أهل العلم, وهذا يدل على أن الشارع قد وسّع من هامش المشاركة بدون حد أدنى من رأس المال, ولو بالبدء من الصفر!!
5- شركة الأبدان «وتسمى الأعمال, وتسمى شركة الصنائع والتقبُّل»: والاشتراك فيها لا يبدأ بالمال, وإنما بعمل البدن. ولهذا يعرفها الفقهاء بأنها «أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما, فما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه». وسواء كان العمل من الصناعات أو في اكتساب المباحات, كأن يشتركا في الخياطة, أو النجارة, أو الحدادة, أو البناء, أو في تركيب المواد الصحية, أو في الاصطياد, وعادة ما تقع بين أرباب الصنائع كالحدادين, والنجارين, والفنيين, والمهندسين... إلخ.
وبتأمل هذه الأنواع الخمسة, يتبين أن شركة العقود عند الفقهاء تنقسم باعتبار مصدر تمويلها إلى أربعة أقسام: شركة مصدر تمويلها المال, وهي شركة العنان والمفاوضة, وشركة مصدر تمويلها العمل وهي شركة الأعمال, وشركة مصدر تمويلها المال والعمل وهي شركة المضاربة, وشركة مصدر تمويلها الجاه, ولا يمكن وجود شركة خارج هذا النطاق حسب الاستقراء العقلي, وهو يكشف عن مساحة الحرية الواسعة للشركات في الفقه الإسلامي, وقد نص نظام الشركات السعودي على أن الحصص في الشركات النظامية، إما أن تكون نقدية, أو عينية, أو عملا, ولكن الحصة الأخيرة لا تدخل في تكوين رأس المال, ثم منع النظام في مادته الثالثة أن تكون الحصة ما للشريك من سمعة أو نفوذ, وهذا ليس تأصيلاً لمنع شركة الوجوه؛ لأن شركة الوجوه تبدأ بالجاه ثم تتوسط العمل ثم تنتهي بالمال, ولأن النظام نص في مادته الثانية على عدم المساس بشركات الفقه المعروفة, ومنها شركة الوجوه, وهذا مما يحسب لنظام الشركات السعودي, علماً بأن شركة المحاصة في النظام يمكن أن تكون المظلة الرسمية لشركات الفقه.
الجمعة أبريل 28, 2023 12:51 pm من طرف ALASFOOR
» اقتراحات ونقاشات
الخميس أغسطس 06, 2015 12:58 am من طرف Ranin habra
» أسئلة امتحانات للسنوات 2012 وما بعد
الخميس يوليو 30, 2015 2:17 pm من طرف محمد أحمد الحاج قاسم
» أسئلة سنوات سابقة
الجمعة يوليو 03, 2015 6:20 pm من طرف مهاجرة سورية
» النظم السياسية
الأربعاء يونيو 24, 2015 5:33 pm من طرف مهاجرة سورية
» اسئلة الدورات
الأربعاء مايو 27, 2015 7:17 pm من طرف بلقيس
» السؤال عن برنامج الامتحانات لسنة 2015
الثلاثاء مايو 19, 2015 3:41 am من طرف Abu anas
» يتبع موضوع المسلمون بين تغيير المنكر وبين الصراع على السلطة
الإثنين مايو 04, 2015 5:01 pm من طرف حسن
» المسلمون بين تغيير المنكر والصراع على السلطة
الأحد مايو 03, 2015 1:42 pm من طرف حسن
» ما هو المطلوب و المقرر للغة العربية 2
الثلاثاء أبريل 21, 2015 7:47 am من طرف أم البراء
» طلب عاجل : مذكرة الاسلام والغرب ( نحن خارج سوريا)
السبت مارس 14, 2015 3:50 pm من طرف feras odah
» مساعدة بالمكتبة الاسلامية
الخميس فبراير 26, 2015 2:32 pm من طرف ام الحسن
» هنا تجدون أسئلة الدورات السابقة لمادة الجهاد الإسلامي
الجمعة فبراير 20, 2015 8:55 pm من طرف راما جديد
» للسنة الثالثه __اصول الفقه الأسلامي3 )) رقم 2
الخميس فبراير 12, 2015 1:16 am من طرف Amir Antap
» محركات مواقع البحث عن الكتب والرسائل الجامعية
الأحد فبراير 08, 2015 11:20 pm من طرف Amir Antap